الأربعاء، 30 يونيو 2010

خــالد ســعيد...لست الأول ..وادعو الله أن تكون الأخيــر!



عزائـي من الظُـلاَّم إن مِـتُ قبلـهم
عمــوم المنـايا مالها من تجــامله


إذا أقصـد المـوت القتيل فإنه
كـذلك ما ينجـو من الموت قاتله


فنحن ذنــوب الموت وهي كثيـرةٌ
وهـم حسنات المـوت حيـن تسائـله

يقـومُ بـها يـوم الحسـاب مدافـعًا
يـردُ بـها ذمامـه ويجــادله


ولكـنَ قتــلاً فـي بــلادي كريـمةً
ستبـقيه مفقــود الجـوابِ يحاولــه


"تميم البرغوثي"

الاثنين، 28 يونيو 2010

فيلم "عسل اسود"عندما نكتشف أن بلدنا رغم كل شيء.. "فيها حاجة حلوة"!

الكوميديا السوداء ...هي أن نسخر من مآسينا ...
هي أن نضحك وبداخلنا جرح عميق.
جرح يصل بنا إلى حد السخرية منه.. لأننا ببساطة لا نملك غير السخرية.

فيمتزج سواد الجُرح بحلاوة الضحك ...ليصل بنا إلى ..

العسل الأسود"

شاهدت الفيلم وبداخلي ذلك الجرح ..
جرح أراه في كل مكان ..بل وعلى نشرات الأخبار أيضًا.

فالمصري مهان داخل بلده وخارجها ...وهذه حقيقة لا يمكن تجميلها بكلمة مثل: "حادثة فردية"

ولن أخوض في تفاصيل "الحوادث الفردية" التي تحدث في الخارج كجلد الطبيبين المصريين في السعودية قبل أن تُعلن براءتهما ...وسحل المتهم المصري في لبنان على يد "مدنيين" دون محاكمة... وضرب صيدلي مصري في الكويت ضربًا مبرحًا على يد كويتي دون سابق معرفة ودون حتى تحقيق...وقتل الشاب المصري ذو السبعة عشر عامًا في ايطاليا على يد مواطن ايطالي "سكران" والذي بالمناسبة لم يقبض عليه إلى الآن!!


جلد وسحل وضرب وقتل!

كلمات تصرخ بالسواد كانت من نصيب المصري في الخارج ...

دعونا منها الآن ...
فالعسل بدأ يفقد حلاوته في حلقي.

يبدأ الفيلم بمشهد كوميدي خفيف في طائرة لشاب مصري اسمًا وصفةً (أحمد حلمي) وهو مصور فوتوغرافي عائد إلى مصر بعد اغتراب في أميركا دام 20 عامًا رسم خلالها صورة جميلة لبلاده... مصر...التي تركها منذ عشرين عام!

صورة جميلة لمصر..
بل صورة قديمة لبلادنا

تأتي مضيقة الطيران لتوزع جوازات السفر المصرية والأمريكية على الركاب وكأنها تقول لهم: "عليكم الاختيار"

فيرفض "مصري" أن يأخذ جواز سفره الأمريكي عند وصوله أرض الوطن وأصر على استبداله بجواز سفره المصري...

وهنا تبدأ المفارقة....

في صالة الوصول ...حيث الابتسامة المشرقة على وجوه الجميع ...يصل "مصري" إلى "شباك الجوازات" وما أن يسأله الضابط عن جنسيته ليرد" مصري" بأنه مصري حتى تنطفئ الابتسامة التي كانت على وجه الضابط ويطلب منه الانتظار بجانب الطريق ربما لساعات ليعطيه النهاية في جواز سفره المصري ويقول له "نورت مصر"
قالها الضابط وكأنها نذير خطر.

وبالفعل، فبدءًا من ضابط الجوازات في المطار إلى موظف الفندق مرورًا بـ "سايس" الخيل إلى ضابط الشرطة... كلهم أظهروا له السوء لمجرد أنه مصري وليس "خواجة"!!

يناقش الفيلم بأسلوب ساخر كيف يتعامل أبناء الوطن الواحد مع بعضهم البعض....وكيف أن للمصري دائمًا المنزلة الأقل في بلده.


ويأتي مشهد من أروع مشاهد الفيلم ...وأكثرها واقعية ...وهو محاولة "مصري" السير في شوارع القاهرة المزدحمة بتلك السيارة التي استأجرها من الفندق....محاولا التعامل مع الفوضى المرورية الهائلة والصادمة لـ "مصري" في ذات الوقت خصوصًا أنه أتى من بلاد لا تعرف للفوضى معنى...وروعة المشهد تكمن في الخلفية الموسيقية لهذا المشهد ...حيث كانت أغنية "حلوة يا بلدي"!

والحق إني ضحكت كثيرًا في المشهد فبجانب حرفية الإخراج التي أظهرت مشهدًا حقيقيًا لإحدى شوارع مصر المزدحمة...أقصد الفوضاوية، كان اختيار أغنية من أشهر الأغنيات التي غنت بها داليدا ذات اللسان الأعجمي حبًا لمصر ..هو الأروع!!

وبعد سلسلة من المواقف، يصاب مصري بإحباط شديد ...فلم يأتي عليه جواز سفره المصري إلا بالإهانة فيضطر في مشهد كوميدي صارخ أن يلقي بجواز سفره في النيل!

ولأن الحق غالبًا ما يكون ضعيف ...فكان الدعامة القوية التي يتكئ عليها ذلك الحق ....جواز سفر أزرق!

استبدل "مصري" جواز سفره المصري ...بجواز سفره الأمريكي ..
استخدمه "مصري" في عدة مواقف في الفيلم ...فأثبت جواز السفر الأزرق – للأسف – جدارته!

يتجلى هذا تحديدًا في مشهد من أكثر مشاهد الفيلم واقعية نظرًا لتكراره بشكل اعتيادي في الشارع المصري ..وهو مشهد إيقاف السائق "لطفي لبيب" من قبل ضابط المرور ..وسحب رخصته ..رغم أن المخطئ لم يكن هو ...بل كان رجل غامض بسيارة فارهة!

هنا اظهر "مصري" جواز سفره الأمريكي وهو يشهد بما رآه ...فأرتبك الضابط وحول الأمر برمته إلى من هو أعلى منه "للإفتاء"!

ولنقف هنا قليلا...

تخيلوا معي لدقيقة، إذا كان "مصري" لا يحمل جواز سفر أمريكي ...وأراد أن يقول كلمة حق..
فربما عنفه الضابط واقتاده عنوة إلى قسم الشرطة طبقًا لقانون الطوارئ وقام بتعذيبه حتى الموت لتكون النهاية هي ..تقرير من طبيب شرعي ليس بشرعي أبدًا يفيد بوفاة "مصري" أثر تعاطيه جرعة زائدة من المخدرات!!

الفيلم حقيقي جدًا ..أراد بشكل ساخر أن يفتح جُرح قديم ..لكنه لم يلتئم بعد ...مثله كمثل الطبيب الذي يخرج رصاصة من جسد جريح على وشك الموت...
في كلتا الحالتين ..
الألم أمر وارد!!


لم يرى "مصري" في مصر تلك الصورة التي رسمها في مخيلته ...ولكنه رأى أشياء أخرى جميلة ..
أشياء ربما لم ولن يجدها في مكان آخر غير مصر ....
هي أشياء لا يعرف بالضبط كيف يسميها ...
أشياء تميز بها المصريين دون غيرهم ...ربما لأنهم هم في الأصل متميزون عن غيرهم..

أشياء نسميها .."الحميمية" ..حميمية اللقاء ...التي وجدها "مصري" عند جيرانه بمجرد أن تذكروا أنه مصري "ابن حتتهم"!
حميمية من الصعب أن يجدها في بلاد باردة الطقس والمشاعر!


أشياء نسميها ..."البساطة"...البساطة في التعامل حتى مع المشكلات فالمصري دائمًا عنده الحلول السريعة لأي مشكلة فإذا تعطلت درجاته البخارية سيكتفي بالدق عليها بـ "ظلطة" لتدور ...وإن حدث وأن توقفت الكاميرا فجأة عن التقاط صورة ...سيلقي بكراسة التعليمات جانبًا...وسيكتفي بالنفخ فيها لتعمل من جديد!

أشياء نسميها "الدفء" ...دفء العائلة ..الذي نشعر به في جلسات الثرثرة حول صيجان الكعك ليلة العيد.

أشياء نسميها ...."خفة الدم" ....خفة الدم التي استطاعت أن تحول أكبر مآسينا إلى نكتة "حلوة"!


فقط، يعيب على الفيلم من وجهة نظري نقطتان ...الأولى هي النهاية غير المنطقية نوعًا ما وتتمثل في عودة "مصري" إلى مصر في اللحظات الأخيرة كالأفلام الهندية ...فشاب مثل "مصري" عاش وتربى في بلد مثل أمريكا من الصعب من الناحية الدرامية أن نقبل منطقيًا بهذه النهاية.
ولكن من الممكن أن نعطي بعض العذر الدرامي فـ"مصري" يعمل مصورًا ومهنة كهذه لا تتطلب كثيرًا إمكانيات دولية معينة.

النقطة الثانية، وأعتقد أنها الأهم ...هي عدم التطرق إلى أي من السلبيات الموجودة فعليًا في أمريكا...فلا اعتقد مثلا أن المصري أو العربي أو المسلم عمومًا يعيش معززًا مكرمًا في أمريكا خصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر دون أي ضغوط.

كنت أتمنى أن يتطرق الفيلم إلى مثل هذه القضية المهمة طالما كان النسق الدرامي يتحدث عن الحقوق. واعتقد أن مشهد المظاهرة كان تربة خصبة لطرح هذا الموضوع ...ولكن المشهد بدأ وانتهى بطريقة هزلية عابرة ...دون حتى استعراض لوجهة نظر "مصري" للقضية ...حين رأى صورًا لبوش ومعتقلي أبو غريب ...لو بنظرة عين!!

الفيلم ليس بالمسيء أبدًا مثلما كتبت بعض الأقلام ...
فقد كنت أشاهد الفيلم في السينما وكأن شريطًا سينمائيًا آخر يعاد عرضه أمام عيني...شريط أحداث مشابهة تعرضت لها بالفعل ...وكأن الفيلم يروي ما رأيت!

استعجبت كثيرًا من حملة الهجوم التي استهدفت الفيلم ....تلك التي اتهمت الفيلم بالإساءة إلى "سمعة مصر"!


لماذا هذه النبرة الآن؟!

اذكر أن شاهدت فيلمًا من أجمل ما أنتجته السينما المصرية في أواخر الثمانينات ...وهو فيلم "الدنيا على جناح يمامة" ...تضمن الفيلم مشهدان من أجمل مشاهد الفيلم وهو مشهد المقارنة بين البنوك المصرية والبنوك الأجنبية من حيث النظام والإدارة بتعليق صوتي للفنان محمود عبد العزيز والمشهد الثاني مشهد القبض على "إيمان" "ميرفت أمين" وسائق التاكسي رضا "محمود عبد العزيز" لمجرد أن الضابط اشتبه بهم!

لم نسمع وقتها أن الفيلم يسيء إلى سمعة مصر ...بل أن الفيلم لازال يُعرض حتى الآن في التليفزيون المصري دون حذف المشهدين!!

أتى فيلم "عسل اسود" بما هو موجود بالفعل في المجتمع المصري ....
لم يختلق ولم يزايد.....

فجاءت المشاهد صادمة وحقيقية جدًا وقد ساعد على ذلك الأداء الحرفي والمتميز لأبطال الفيلم ..
بدءًا بأحمد حلمي الذي أقنعني بشكل كبير بالشخصية شكلا وموضوعًا.
ايمي سمير غانم: والتي كانت مفاجئة الفيلم بالنسبة لي بأدائها العفوي والمميز جدًا فخرجت من الفيلم أتذكر جيدًا جملا حوارية كاملة لها رغم قلة عدد المشاهد التي أدتها.
طارق الأمير: أو عبد المنصف والذي أدى دوره بحرفية شديدة وبتلقائية وطبيعية أبعد ما يكون عن التمثيل أو الإدعاء!

ولأني اعتبر المخرج من أبطال الفيلم ...فقد قدم لنا "خالد مرعي" فيلمًا قويًا من حيث الصورة والإخراج ..

كذلك الصوت الجميل "ريهام عبد الحكيم" والتي غنت ضمن أحداث الفيلم أغنيتن أراها أنها من أصدق الأغنيات من حيث الكلمة واللحن وهما "بالورقة والقلم" و "فيها حاجة حلوة" تلك الأغنية التي أتت مع تترات النهاية للفيلم مع حوار جميل وعفوي جدًا لأحمد حلمي مع "مراكبي" !

ويبقى الجندي المجهول ...الذي لازلت أبحث عن أية معلومات عنه إلى الآن ...فم يحالفني الحظ أن اقرأ اسمه بين تترات الفيلم ...وهو المصور أو الـ Photographer الذي أتحفنا بصورٍ أكثر من رائعة جعل من إحساسي الأول بعد خروجي من الفيلم هو أني ...."عايزة اشتري كاميرا"!!

الأحد، 13 يونيو 2010

كيف تسرق تاريخًا!

"حدث أن مات يهوديان ووصلا إلى بوابات السماء المصنوعة من اللؤلؤ وسألا حارسها القديس بطرس:
- هل يمكننا الدخول؟

فطردهما قائلا:
- غير مسموح لكما بالدخول.

ثم ذهب ليحكي إلى يسوع المسيح الذي لامه على تصرفه وأمره بالعودة إليهما ليدخلهما الجنة...وذهب بطرس مسرعًا ..ثم عاد إلى يسوع قائلا:

- لقد اختفوا.

- من؟ اليهوديان؟

- لا...بوابات السماء!!"




نكتة طريفة أرادت أن تقول لنا: "أحذروا!"..
فاكتفينا بتقديم اليهودي قي أفلامنا في صورة .. "الدنيء"!

دنيء مضحك ..يظهر دائمًا في دور المرابي الجشع، أو الباشكاتب المزور، أوصاحب البيت البخيل...

محتال يجيد سرقتك عن طيب خاطر ..
دنيء ..ولكنك أحيانًا تتعاطف معه..

شخصية أشبه بالشخصية الكرتونية...دائمًا ما يظهر ضئيل الحجم، ضعيف البنية، منحني القامة ...له طريقة مضحكة في نطقه للكلمات ..كـ "خنفان" استيفان روستي في فيلم "حسن ومرقص وكوهين"!!
دنيء ..وتعرف ذلك جيدًا ...ولكنك تحب أن تراه طوال الفيلم!!


منذ عدة أشهر، أطلت علينا نشرة الأخبار بإعلان إسرائيل أن الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح آثارًا يهودية!!

الدنيء يظهر مجددًا على الشاشة ...
ولكن هذه المرة، في زي عسكري ومدجج بالسلاح ويضع شريط أصفر بحروف عبرية حول مسجدًا للمسلمين!!

جاء ليسرق بوابات اللؤلؤ التي لدينا ..ونحن نشاهد.... بل ونقوم بإخراج المشهد أيضًا!!

إن أردت أن تسرق تاريخًا فالأمر سهل ..


قل أن نبيًا لي مر من هنا ...وابني ضريحًا!!

ارسم شريطًا حدوديًا يحتضن تراث الآخرين..وأعلن دولتك!!

ولا تنسى أن تكذب مائة مرة حتى تصدق أنت نفسك الكذب!!

كلنا نعلم أن إسرائيل بلا حضارة ..بل بلا تاريخ يُذكر...
دولة عمرها أقل من السبعين عام ..لا يمكن أن يكون لها ما يقولون عنه "تراث"!

فماذا تفعل لو كنت مكان دولة قامت على أنقاض وجثث الآخرين؟!
ماذا تفعل لكي تثبت أن وجودك كان ولا يزال متأصلا بين أقوام صنعوا الحضارة والتاريخ؟!

الأمر سهل ..

التقط صورة لقبة الصخرة واكتب فوقعها "Israel"!..
ضم جبل الطور بسيناء إلى قائمة آثارك!
ضع صورًا لشرم الشيخ وفندق طيبة على إعلان سياحي واكتب أسفل الإعلان "Visit Israel"!


هذه ليست نكته هذه المرة، فبالفعل رأيت كل هذا...

رأيت صورًا لمساجدٍ بفلسطين كتب عليها "إسرائيل"...
ورأيت صورًا لبلادي على مواقع سياحية عرفت بعد ذلك أنها لإسرائيل!!

كنت أسأل نفسي ...أين نحن من كل هذا؟ أين نحن على الأقل كمصريين؟!
ولكن عندما سمعت بفضيحة بيع قطع أراضي بسيناء لشخص مشبوه له علاقات بشركات إسرائيلية.....عرفت الإجابة!

فمن يبيع أرضه لعدوه طواعية عن طريق وسيط ليس له انتماء ....لن يكترث بصورة في إعلان!!

إسرائيل تكذب ...تكذب على العالم وعلى نفسها!
ولكن لكي تكتمل أركان الكذبة المحبوكة... يجب أن يكون هناك من يصدقون.
فللكذبة المحبوكة طرفان ...المدعي والمصدق

وطالما ليس هناك من يصدق ...فأركان الكذبة هنا غير موافية للشروط!

فلا اعتقد مثلاً أن هؤلاء السياح الذين يتوافدون من أقاصي العالم لكي يشاهدوا رقي وجمال العمارة بمسجد البحر أو جامع البحر في يافا السليبة والتي هي قلب إسرائيل، سيصدقون أنه أثر يهودي!! بل سيدفعون للجيش الإسرائيلي رسوم زيارة "المسجد اليهودي" ..وهم يكتمون ضحكاتهم!

إسرائيل لن تستطيع أن تطمس هويتنا...
فإن كذبت وقالت هذه الحوائط يهودية ...سينطق النقش الإسلامي ليقول غير ذلك!

فمسجد "بلال بن رباح" يحمل اسمًا عربيًا ...سيتعثلم أي إسرائيلي عند نطقه!

وإن أتيت إلى إسرائيل عن طريق البحر، فإن أول شيء ستراه من بعيد ....مئذنة!!



الاثنين، 7 يونيو 2010

ورأيت هنا الألم..


كانت أقصى حدود ألمي، هو ذلك الصداع النصفي الذي يأتني من آن لآخر في الجانب الأيسر من رأسي...

ضيف ثقيل ما إن يأتي لزيارتي حتى يجن جنوني..
ضيف يأتني بلا دعوى ..ودائمًا في الوقت غير المناسب.

كان علاجه الوحيد هو مسكن فوري شديد المفعول ....وليس احتماله!!

هكذا كان منطقي ..."الحل السريع وليس الصبر"!
فالصبر كلمة تختفي من كل القواميس عند شعوري بالألم
كلمة لا اقرأها ولا أريد سماعها...
فقط.. مسكن فوري وسينتهي كل شيء

عند شعوري بالألم ...أتحول إلى شخصية سلبية من الدرجة الأولى
أتغيب عن العمل..
لا أتحدث مع أحد..
وأتقوقع في غرفتي دون حراك محاولة الاستسلام لنومٍ ربما ينتصر على ألمي!

وليس هذا كل شيء، بل أفرض سلبيتي على الآخرين
فعلى أبي أن يذهب إلى الصيدلية في منتصف ليل شتاء قارس ليحضر لي دفعة جديدة من المسكن الذي "نفدت كميته"!!
وعلى أخي أن يكتم فرحته وحماسه بإحراز فريقه المفضل لهدف!!
وعلى أمي أن تتحدث "همسًا" في الهاتف حتى ولو كانت تتحدث مع شقيقتها التي تسكن في أقصى الصعيد ولم تراها منذ سنوات وتشتاق إليها لمجرد سماع اسمها!!

على الجميع أن يصمت...على العالم كله أن يصمت ...على الحياة نفسها أن تتوقف ...فأنا اشعر بألم!!

أنانية، نعم....
مدللة، ربما..
لكم أن تقولوا ما تشاءون ...ولكن تذكروا أنه لن يتحمل أحد منكم ألمي بالنيابة عني ...فالألم أناني ...لا يعرف الإيثار!!

منطق متغطرس وسليط اللسان..
منطق تبنيته وآمنت به...فقد كنت أرى أن الألم في حياتي يجب أن يموت قبل أن يولد....حتى ولو كان مجرد.. "صداع نصفي"!!

إلى أن قادتني الظروف غير السعيدة إلى إجراء عملية جراحية بسيطة في إحدى مستشفيات حكومتنا المستنيرة
والمشهد كالآتي...
زحام وفوضى وسوء معاملة...
ممرضات يصرخن...وضجيج في كل مكان
شخصيات وحكايات تروى في غرف الانتظار ..
وأعين تذرف دموعًا وتصرخ "أريد الشفاء"!!

وأتيت أنا كما أنا....

حاملة معي حقيبتي ومنطقي المتغطرس في الألم الذي يجب أن يموت قبل أن يولد!!
دخلت غرفة بخمس أسِّرة كان لي نصيب في واحد منهم.
ورأيت هنا الألم..

فها هو طفل لم تختر النيران التي شبت في منزله سوى مفصل قدميه لتلتهمه.. ليصبح بجانب تشوهه عاجز عن الحراك!
وها هي أم لثلاثة أطفال ترقد بين الحياة والموت بعد أن هشمتها سيارة في الطريق لتفيق من غيبوبتها على ألم آخر و هو فقدان ابنتها في نفس الحادث!
وفتاة جميلة...جميلة حقًا...شاء القدر أن يشوه نصف وجهها لتتوارى بعد ذلك خلف ستائر سريرها خوفًا من نظرة امتعاض من الآخرين!
وأجساد ملطخة بالدماء تحملها أيادي مسرعة نحو الأمل في النجاة من موت محقق!!

كانت صدمة....أشبه بصفعة على وجهي..
صفعة تقول لي: "أرأيت الألم؟!"

انزويت في أحد أركان الغرفة...وأخذت أبكي!!
بكيت لبكائهم ولصراخهم ولحكاياتهم!!

الحمد...

الحمد بالنسبة لي لم يكن أكثر من تلك العبارة التلقائية التي أقولها دومًا حينما يسألني أحدهم عن أحوالي!!
ولكن تلك الغرفة بحكاياتها جعلتني أوقن عمق هذه الكلمة

فما كنت "أتدلل" به لم يكن يساوي الواحد على المائة ألف مما كانوا "يصرخون" من أجله!!

مشهد لن يتكرر

عندما نشعر بالخوف ...
عندما تسكننا الوحشة..
وعندما ينكسر الكبر الذي بداخلنا...
ندرك وقتها أننا صغار!!

صغار أمام أنفسنا ...وأمام الألم
فلا نقوى على فعل شيء سوى اللجوء إلى من هو اكبر منا... ومن الألم....إلى الخالق عز وجل!

أمسكت بمصحفي وجلست على سريري البارد اقرأ بعض آيات القرآن الكريم...
كنت اقرأ بصوت خافت محاولة الخشوع وتدبر عمق الكلمات..
في تلك اللحظة كان هناك صوت آخر يشاركني الخشوع
صوت أراد أن يعلن هو الآخر عن رجائه

كان صوت تراتيل مسيحية تصدر من "كاسيت" جوزفين التي ترقد أختها بين الحياة والموت على السرير الذي بجواري!

كلانا ترجى الله...
كلانا كان الألم عدوه ..والشفاء مطلبه!

كنت اقرأ القرآن وصوت الإنجيل في أذني!!
صدق المشهد أخافني ...
ربما لأنه كان حقيقيًا جدًا في عصر كثرت فيه الفتن ...
وفي عصر الفتن.. قطرة الندى تخيف زهرة الصبار التي اعتادت العطش!!

رأتني جوزفين اقرأ القرآن فطلبت مني الدعاء لأختها!!
مشهد لن يتكرر...إن أردنا ذلك!!

تلك كانت الأيام التي قضيتها وسط الألم...لن أقول أنها الأسوأ في حياتي وبالطبع لم ولن تكون الأحسن، لكن سأقول أنها الأهم ..ربما الأهم على الإطلاق!!
فمن المهم أن تتألم قليلا لتعرف معنى السكينة.....ولتعرف من يهتم لأمرك

علمني ألمي ...كيف أرى آلام الآخرين ...وكيف أتخلى عن أنانيتي عند شعوري بالألم ..

فإذا عاود الزمان كرته، لن أرغم أبي على الذهاب إلى الصيدلية وسط ليل شتاء قارس ليحضر لي مسكن!
ولن اطلب من أمي أن تتحدث همسًا في الهاتف مع شقيقتها ..وإذا صادف وأحرز الفريق المفضل لأخي هدفًا ....سأهتف معه!!