الأحد، 9 يناير 2011

أعيدوا لنا "الكنوز"...


كانت ليلة شتاء باردة...
أترك فراشي الدافيء بحذر ...وأتوجه إليه!
فقد قاربت الساعة على الثانية بعد منتصف الليل...وهذا موعدي معه!

أخرج من غرفتي على أطراف أصابعي حتى لا يفيق أحد من ثباته العميق ...
فيعكر علينا صفو اللقاء!

أدير زر التلفاز ....فيبدأ العرض.....
ومن ثم اللقاء!

برنامج "كنوز مسرحية" ....والذي يختص بعرض "الكنوز" من الأعمال المسرحية القديمة...
خصوصًا تلك التي عُرضت في فترة السيتينات حتى أوائل السبيعينات ....ذلك العهد الذهبي من تاريخنا المسرحي.

"سكة السلامة"، "جميلة بو حريد"، زهرة البنفسج"، "حلاق بغداد"، "دماء على استار الكعبة"، "كرسي الإعتراف"، "مآساة الحلاج"، "راسبوتين"، "الشوارع الخلفية"، "سر الحاكم بأمر الله"، وغيرها ..وغيرها من المسرحيات التي اصطبغت معظمها باللونين الأبيض والأسود.

أذكر الموعد جيدًا ...
يوم الإثنين .....القناة الثانية ...الساعة الثانية بعد منتصف الليل....
بالطبع موعد يصعب نسيانه...

كنت أمام التلفاز، اتكور داخل "بطانية" لتحمني من البرد على كرسي غير مريح بالمرة..
كنت أحاول بقدر الإمكان أن أخفض صوت التلفاز، حتى لا يستيقظ أبي فيذكرني بأني "عندي مدرسة الصبح"
كنت أغالب النعاس حتى لا يفوتني شيء

فالحق أن ما كنت أشاهده ...يستحق!

إن كنت يا سيدي تملك قلب من حجر !
فقلبي ما عاد يطيق أن أكتم حبي لك سأقولها بكل فخر!!
أحبك أيها الملك الأغر!!
أحبك بكل الحب الذي أملك أو يملك بني البشر!
أحبك وما الحب عندي مثلك حربٌ فيها كر وفر!!


الكلمة.....
عرفت معنى "جمال الكلمة" من خلال تلك المسرحيات ..
ففي مسرحيات كـ "دماء على أستار الكعبة" و "مأساة الحلاج" و"سر الحاكم بأمر الله"...والتي كان لغة الحوار فيها هي اللغة العربية الفصحى ...تجد أن "لغتنا الجميلة ...."جميلة بحق!

فمابلك بأن من يؤديها أيضًا ممثلين كـ "عبد الله غيث" و "سميحة أيوب" و"يوسف وهبي" و"سناء جميل
بالطبع سيزداد الجمال روعة ورقي!

كنت استغرب ذلك الموعد شبه المستحيل!
لماذا تكون الساعة الثانية بعد منتصف الليل موعدًا لعرض برنامج بأهمية برنامج "كنوز مسرحية"؟!

برنامج يساهم بشكل مباشر في الإرتقاء بذوق وفكر المتفرج

لماذا يؤخرون "الكلمة الجميلة" إلى ما بعد منتصف الليل؟؟!

وذات "أثنين"، كنت كالعادة ...على الموعد معه..
وقمت بكل طقوس ما قبل رفع الستار..
أحضرت بطانيتي ...وتكورت بداخلها!
أخفضت صوت التلفاز..وغالبت النعاس....
ولكنه لم يأت!
إنتظرت لساعة كاملة أمام "القناة الثانية"، ولم يأت!
عرفت بعد ذلك أن البرنامج تم إلغائه ضمن خطة لتطوير التلفزيون!

إلغائه؟!!...لماذا؟؟!!...ألم يكفي تأخيره؟؟؟!

ثورتي كانت أشبه بثورة مكلوم ..سمع بموت أحد أحبائه.... فيظل يقول: "لا لا لم يمت"!
كنت أقولها أنا أيضًا فكنت أنتظر البرنامج كل يوم أثنين ..على القناة الثانية ...الساعة الثانية بعد منتصف الليل...رغم علمي بأمر إلغائه!

كنت أقول في كل مرة "لعل وعسى" هذه المرة!
لكنه لم يكن يأتي!

لم يكن البرنامج أقل حظًا من غيره ..فقد تم إلغاء "كنوز" أخرى ضمن خطة التطوير هذه!
برنامج "تياترو" "قبل رفع الستار" "نادي السينما" "حدث بالفعل" وغيرها!
كل تلك البرامج تم إلغائها .....للتطوير التلفزيون!

لم أفقد متعة مشاهدة "الكنوز" فحسب ...بل فقدت أيضًا متعة الإنتظار!


كنز آخر كان له نصيب من الإختفاء....
وكان كنزٌ صغير..

أتذكرون برنامج "القرآن علمنا"؟
كان يُعرض على القناة الثالثة يوم الجمعة من كل أسبوع بعد الصلاة مباشرة....أتذكرون؟؟!

كان عبقرية البرنامج في بساطته!

كان يقدم القيم الأخلاقية وخصوصًا تلك التي ذكرت في القرآن في صورة تمثيلية قصيرة مدتها لا تزيد عن عشر دقائق لأسرة من أب وأم وطفلين وبعدها يقوم مقدم البرنامج بعد نهاية الحلقة بشرح تلك القيمة الأخلاقية والدروس المستفادة من الحلقة التي تم تمثيلها لبعض الأطفال والشباب الموجودون في أستوديو القناه!

كان برنامجًا رائعًا...

كنت أتابعه بشغف شديد ...

الصدق، الأمانة، الإخلاص في العمل، حسن المعاملة، النظافة، الإحسان ..

قيمٌ قُدمت وعُرضت في شكل مسلسل صغير في عشر دقائق!

فلما الاختفاء؟!

ما كان لافت للنظر في هذا البرنامج ...أنه لم يكن برنامج ديني بالمعنى المتعارف عليه.
فلم تكن لغة الحوار هي الفصحى مثلاً...ولم ترتدي الأم الحجاب!

وكأن البرنامج يريد أن يقول ...
القيمة أولا ...ولك بعد ذلك كل الحرية!


ولن أترك القناة الثالثة وأذهب بعيدًًا ...فقد كان هناك كنزًا آخر يُعرض بها!
هو البرنامج المختفي "بلاغات"...للمذيع المختفي أيضًا.."عاصم بكري"!
كان يُقدم في أقل من خمس دقائق ...درسًا لغويًا صغيرًا جميلاً باللغة العربية!
والحق أن الرجل كان رائعًا في لغته وإلقائه!

لم تكن الكارثة في إلغاء أو اختفاء تلك البرامج فحسب بل كان أيضًا في عدم وجود بدائل لها!
فنحن الآن في أمس الحاجة إلى مثل تلك البرامج حتى لا يأتي فيه اليوم الذي نجد كل ما هو جميل قد اختفى!

وحتى لا يعود ذلك اليوم الذي وجدت فيه ابن خالتي ذو السبعة أعوام يغني في سعادة ...
"أنا شارب سيجارة بني"!