الأربعاء، 27 يناير 2010

"نفسك تطلعي إيه؟!" (الجزء الثالث)

ورقة رغبات ...
كانت لها قدسية خاصة جدًا في تلك الليلة الموعودة ...

"اكتبي يا لبنى بقلم رصاص علشان ماتشغبطيش في الورقة"

"حاسبي يا بنتي الورقة هتقطع"

"خاللي الورقة على جنب علشان ما تتلخبطش مع الورق التاني"..

كانت ليلة ليلاء ...بطلتها الوحيدة "ورقة رغبات"!!
اذكر أن جميع أفراد عائلتي التفوا حول تلك الورقة وبدأ كل واحد منهم يدلو بدلوه:

"لبنى انت بتحبي الشعر إيه رأيك في كلية دار العلوم كرغبة أولى؟؟"

"لأ...كلية تربية رغبة أولى ॥المدرسين بيتعينوا بسرعة"

"لا..لا..حقوق حقوق"!!

كانت اقتراحاتهم شديدة التلقائية ..وكأنهم يتناقشون حول الوجبة المناسبة التي سيطلبونها من هاتف الـ "دليفري"!!
حسمت الموقف على غير عادتي وكتبت كلية الآداب جامعة عين شمس كرغبة أولى ...ولكن في أي قسم؟؟!
تلك هي المشكلة!!
هملت يُبعث من جديد في شخصي الكريم!!
قرأت تلك المسرحية التي تُعتبر من روائع ما كتب شكسبير فوق الثلاث مرات...
تابعتها في السينما والمسرح..وقرأت العديد من المقالات النقدية عنها

كنت ألوم على هملت تردده ...
فقد كان يمتلكني الغيظ الشديد في كل مرة اقرأ فيها أو أشاهد ذلك المشهد الشهير لمحاولة هملت قتل عمه وهو يصلي، ثم يتراجع هملت في آخر لحظة!!
كنت اصرخ بداخلي:
"هيا ..اقتله ..لما الانتظار؟" "ده أنت رخم رخامة"!!

كنت أعيب على هذه الشخصية حيرتها الدائمة ..إلى أن وقعت في الحيرة نفسها!!
فقد كان هناك شيئًا بداخلي أريد قتله ...ودائمًا ما كنت أتردد في اللحظة الأخيرة..
شيء هلامي غير محدد..
ربما الخوف ....ربما الشك..
نعم هو الشك....الشك الذي كلما أردت قتله أخاف أن يكون يقينًا!!

جواب مكتب التنسيق ....

أفاد "جواب مكتب التنسيق" بأنه قد تم قبولي في كلية الآداب جامعة عين شمس ...
وذهبت إلى الجامعة بصحبة والدي لاختيار القسم المجهول...
والحقيقة أن الكلية كانت أشبه بـ "مجلة للمنوعات"...ولأني من هواة البحث عن العالم، فقد كنت ابحث في الأقسام الخاصة باللغات أو الحضارات الأخرى في مجلة المنوعات هذه..

ولأن الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية كان يشترط الحصول على 48 درجة من مجموع 50 درجة كحد أدنى في مادة اللغة الإنجليزية، وهذا على اعتبار أن طلاب الثانوية العامة في مصر كانوا في الأصل أعضاء في الكونجرس الأمريكي ، فلم احتار كثيرًا في استبعاد قم اللغة الإنجليزية من حساباتي!

لم أكن أحب اللغة الفرنسية. ولم أكن أريد دراستها ..وقد حسمت الكلية الأمر من تلقاء نفسها قبل أن أحتار ...وذلك باشتراطها أن أكون خريجة لإحدى المدارس الفرنسية أو على الأقل درست اللغة الفرنسية كلغة أولى في المرحلة الإعدادية وهذا ما لم ينطبق عليَّ.

"خلاص ..بلاها سوسو"...وسأبحث من جديد...

قسم اللغة العبرية ....القسم المنبوذ ...فقد كان هناك تصور ساذج بأن طلاب هذا القسم "غير منتمين" أو فيهم شيء من الريبة لمجرد أنهم يدرسون لغة ودين وثقافة أعدائنا!!
كانوا محط سخرية باقي الطلاب لدرجة أن مكان تجمعهم في حديقة الجامعة كان يُسمى بـ "تل أبيب"!!

بالطبع لم أبالي بهذه التفاهات وحاولت الالتحاق بهذا القسم المثير للجدل ...فقد كنت دائمًا مهتمة بدراسة التاريخ اليهودي ..إن صحت هنا كلمة "تاريخ"!!

ولكن حدث أن قال لي أحد طلاب هذا القسم أو الأول على الدفعة كان تقديره "جيد"
"جيد" فقط!!
بالطبع أوحالي بأن الدراسة في هذا القسم صعبة وشاقة...خصوصًا أن الحروف العبرية لها طريقة معينة في القراءة والكتابة وفي كل شيء ....
حاولت أن استجمع شجاعتي ...واستبعد فكرة الفشل ..
ولكني ترددت..
ترددت في قتل شكٍ ..خفت أن يكون يقينًا!!
فأستبعدت هذا القسم من حساباتي على مضض كبير !!

قسم اللغات الشرقية ....فارسي ...تركي ...أوردي (لغة الهند وباكستان)
أعجبتني فكرة أن أدرس لغات لم أدرسها من قبل في حياتي ....لغات جديدة ...لحضارات قديمة ...

التحقت بهذا القسم ...وكنت سعيدة جدًا بالتحاقي به..
درست اللغات الثلاث في السنة الأولى وتخصصت في اللغة الفارسية في السنة الثانية وهذا بعد سجال طويل مع عائلتي ...

سجال ربما استمر لأربع سنوات هي مدة دراستي في هذا القسم!!
ربما لأن الفارسية لغة غير معروفة للكثيرين...
ربما لأن سوق العمل لا يتطلبها في مصر...
وربما لأسباب أخرى تتعلق بالسياسة لا علم لي بها!!

المهم أني أحببت هذه اللغة وتفوقت فيها أثناء دراستي ...فقد كنت احصل على تقدير امتياز في مادة الترجمة.

"الترجمة...لما لا؟؟!!"

كنت احدث نفسي بتلك الكلمات كلما ترجمت مقالاً وأبيات شعرية فارسية بشكل جيد ...فقد كنت اعشق الاطلاع على تلك الحضارة وآدابها ..وكأني أملك حياتين ...حياة عربية في مصر ...وحياة أخرى فارسية في بلاد فارس.
كان هذا دائمًا ما يميز أي دارس لأي لغة غريبة عليه..."امتلاك مفاتيح الحضارات" ...والأمر يصبح أكثر متعة حين تكون تلك الحضارات من أعظم حضارات التاريخ الإنساني.

أبهرتني تلك المعاني السامية التي كتبها عمر الخيام في رباعياته ...كنت أقوم بترجمتها في سعادة وكأني أول من نقلها إلى العربية!!
كنت مستمتعة بما افعله!!....عمر الخيام، حافظ الشيرازي وغيرهم من شعراء وأدباء فرس أثروا حضارتهم بما قدموه من أدب وفن في قصة قصيرة أو قصيدة. كنا نتنافس أنا وزملائي من منا يستطيع ترجمة هذه التحف الفنية إلى أقرب معنى لها بصيغة عربية بديعة وليست سليمة فقط!

كنا دائمًا نفكر في الجمال ....الجمال أولا قبل كل شيء ...فالترجمة فن ..وليست مجرد نقل للعبارات إلى لغتنا.
كنا مبدعين حقًا ...حتى من لم يكن مبدعًا منا تعلم معنى الذوق ومعنى جمال الكلمة...

إلى أن دخلت سوق العمل ...وهناك ..لا مكان للجمال ولا وقت للإبداع ...فقط "إنقل للعربية"!!
وخصوصًا في ذلك المجال الذي تخصصت فيه ..فقد أصبحت مترجمة لبرامج الـ Software بالفارسية!!

فتحولت "رباعيات الخيام"...إلى "انقر فوق الزر الأيمن"!!

لم أعد أرى جمالا ..ولم يُسمح لي أصلا باستخدام تعبيرات أدبية في الترجمة...
فالعميل لا يريد جمالا ...يريد فقط بيع منتجه!!

لم تكن صدمتي كبيرة ...فهي أشبه بالصدمات الثقافية التي نقابلها كل يوم ...علاجها الوحيد ..هو التأقلم معها وليس تغيرها.

فرباعيات الخيام لن تجني المال للشركات!!
ولا مكان للجمال في عالمٍ اختار القبح بمحض إرادته!!

الخميس، 14 يناير 2010

"نفسك تطلعي إيه؟!" (الجزء الثاني)



"يا أبيض.. يا أسود"!!
عبارة شهيرة تُقال عادةَ في لهجة حاسمة ووجه متجهم للتعبير عن الرغبة في تحديد المصير!!
لونين لا ثالث لهما...لا يقبلان أي لون آخر بينهما ....ولا يريدان حتى الإتحاد فيما بينهما ليصلا إلى اللون الرمادي ...ذلك اللون الحيادي الذي لا يُغضب أحدًا!!

عند انتقالي إلى تلك المرحلة التي يحلو للبعض تسميتها بـ "عنق الزجاجة" ..أو بمعنى أصح "الثانوية العامة"...ورغم أن التوتر والقلق توأمي الملتصق ..إلا أني في هذه المرحلة لم أشعر بذلك التوتر المفروض على كل طالب في الثانوية العامة ..لم أؤدي ذلك الواجب القومي في التوتر والقلق ...ليس لأني كنت طالبة فذة وعبقرية ولا أخاف تلك التفاهات التي تسمى بامتحانات آخر العام ...
لا ...بل لأنني كنت أعيش عالم رمادي ...فقد كان كل ما حولي رمادي ...
حوائط المدرسة....
زي المدرسة ....
وأحلامي أيضًا!!

في تلك المرحلة لم أكن ذلك الطالب الذي لديه حلم معين ويحترق من أجل تحقيقه!!


فلم أكن أريد شيئًا معينًا ...ولم أحب شيئًا معينًا ...

ولكن حدث ذات مرة أن قامت مدرسة اللغة العربية بإعطائنا بعض الفروض المدرسية ومن بينها كتابة موضوع تعبير عن مشكلة البطالة في مصر ...كان الموضوع محبطًا نوعًا ما لطلاب في مثل عمرنا ....
فقمت بكتابة الموضوع من باب أنه "واجب دراسي" أقوم به خوفًا من العقاب ...وليس لتعلم شيئًا جديدًا!!


في اليوم التالي، قمت بتسليم ما كتبته لمدرستي كباقي زميلاتي في الفصل غير مكترثة بتلك الأخطاء النحوية التي وقعت فيها أثناء كتابتي...فيكفيها أني قمت بالكتابة أصلا!!..
هكذا كنت أفكر !!

بعد يومين، جاءت مدرستي إلى الفصل وفوجئت بها تنادي باسمي:

"فين لبنى عبد الهادي؟؟!!"
لم أشعر بقدماي يومها حين وقفت والخوف يعتصرني ....كنت اسمع صوت دقات قلبي ..وظننت أن العالم كله يسمعها أيضًا!!

ماذا تريد مني مدرستي؟...ماذا فعلت؟!!.
من المؤكد أنه شيء خطير ما يجعلها تناديني باسمي كاملا دون تردد!

فقد كانت مشكلتي هي أن معظم مدرسيني ينسون اسمي!!
ولما لا.. فالفصل به أكثر من 50 طالبة يرتدون نفس الزي ...ونفس اللون الرمادي!!

كنت أُنادى دائمًا في الفصل بـ "اللي بعدها"!! ...وهذا على اعتبار أننا مجرد "تسلسل منتظم" وليس لنا اسماء!!

"تعالي يا لبنى هنا"...قالتها بهدوء شديد!!
كان مقعدي في آخر الفصل تقريبًا ...كما أحب دائمًا!


فقد كنت أكره المواجهة!!
مشيت في خطوات مترددة وأقول في نفسي:

"هي الأخطاء النحوية اللي عملتها!!...كان فيها إيه يعني لو كنت خليت بابا هو اللي يكتبلي الموضوع زي ما صحبتي عملت؟؟!!...كان لازم يعني اتفزلك واكتبه أنا؟؟ ليه يعني؟ أنيس منصور حضرتي؟!!"

أنيس منصور ....

كان الكاتب الأول بالنسبة لي في تلك المرحلة العمرية...وكنت أهوى مقالته الساخرة!! وكأنه يتحدث على لساني!!

نظرت إليها بعين استرحام وقبل أن أنطق بكلمة ....بادرت هي بامتداحها لأسلوبي في كتابة الموضوع ...وطلبت مني أن اقرأ الموضوع على زميلاتي في الفصل بصوت عالي!!
كاد أن يُغشى عليَّ من هول المفاجئة!!



أنا؟!...أسلوب جميل؟!..وصوت عالي؟؟!!

ثالوث آخر لا يجتمع فيَّ أبدًا ...على الأقل أثناء تلك المرحلة العمرية.

أمسكت بكراستي..وبدأت اقرأ أول سطور الموضوع في صوت مرتعش!!

قاطعتني زميلة لي موجهة كلامها إلى المدرسة:
"مش سامعين يا أبلة"!!

بدأت أرفع من مستوى صوتي فبدى ارتعاشه أكثر وضوحًا!!...إلى أن انتهى الموقف بتصفيق زميلاتي !!

كنت سعيدة ..غير مصدقة لما حدث ...لقد عرفت ما أريد!!...لقد أمسكت بطرف الخيط!!

الكتابة!! ...نعم !!...لماذا لا يكون هدفي هو الكتابة إذن؟...لماذا لا أكون صحفية مثلا والتحق بكلية الإعلام؟

كنت كالغارق الذي يتعلق بالقشة ...حتى ولو كان يدري أن مصيره هو الغرق لا محالة ...فالقشة بطبيعة الحال لا تحتمل ...ومجموعي أيضًا لم يحتمل!!...
ولأن مكتب التنسيق هو من يحدد أهدافنا وليس نحن..بدأت من جديد أبحث عن بديل ...
بديل لهدفي ... هدفي الذي لم يكن موجودًا في الأصل!!