كانت أقصى حدود ألمي، هو ذلك الصداع النصفي الذي يأتني من آن لآخر في الجانب الأيسر من رأسي...
ضيف ثقيل ما إن يأتي لزيارتي حتى يجن جنوني..
ضيف يأتني بلا دعوى ..ودائمًا في الوقت غير المناسب.
كان علاجه الوحيد هو مسكن فوري شديد المفعول ....وليس احتماله!!
هكذا كان منطقي ..."الحل السريع وليس الصبر"!
فالصبر كلمة تختفي من كل القواميس عند شعوري بالألم
كلمة لا اقرأها ولا أريد سماعها...
فقط.. مسكن فوري وسينتهي كل شيء
عند شعوري بالألم ...أتحول إلى شخصية سلبية من الدرجة الأولى
أتغيب عن العمل..
لا أتحدث مع أحد..
وأتقوقع في غرفتي دون حراك محاولة الاستسلام لنومٍ ربما ينتصر على ألمي!
وليس هذا كل شيء، بل أفرض سلبيتي على الآخرين
فعلى أبي أن يذهب إلى الصيدلية في منتصف ليل شتاء قارس ليحضر لي دفعة جديدة من المسكن الذي "نفدت كميته"!!
وعلى أخي أن يكتم فرحته وحماسه بإحراز فريقه المفضل لهدف!!
وعلى أمي أن تتحدث "همسًا" في الهاتف حتى ولو كانت تتحدث مع شقيقتها التي تسكن في أقصى الصعيد ولم تراها منذ سنوات وتشتاق إليها لمجرد سماع اسمها!!
على الجميع أن يصمت...على العالم كله أن يصمت ...على الحياة نفسها أن تتوقف ...فأنا اشعر بألم!!
أنانية، نعم....
مدللة، ربما..
لكم أن تقولوا ما تشاءون ...ولكن تذكروا أنه لن يتحمل أحد منكم ألمي بالنيابة عني ...فالألم أناني ...لا يعرف الإيثار!!
منطق متغطرس وسليط اللسان..
منطق تبنيته وآمنت به...فقد كنت أرى أن الألم في حياتي يجب أن يموت قبل أن يولد....حتى ولو كان مجرد.. "صداع نصفي"!!
إلى أن قادتني الظروف غير السعيدة إلى إجراء عملية جراحية بسيطة في إحدى مستشفيات حكومتنا المستنيرة
والمشهد كالآتي...
زحام وفوضى وسوء معاملة...
ممرضات يصرخن...وضجيج في كل مكان
شخصيات وحكايات تروى في غرف الانتظار ..
وأعين تذرف دموعًا وتصرخ "أريد الشفاء"!!
وأتيت أنا كما أنا....
حاملة معي حقيبتي ومنطقي المتغطرس في الألم الذي يجب أن يموت قبل أن يولد!!
دخلت غرفة بخمس أسِّرة كان لي نصيب في واحد منهم.
ورأيت هنا الألم..
فها هو طفل لم تختر النيران التي شبت في منزله سوى مفصل قدميه لتلتهمه.. ليصبح بجانب تشوهه عاجز عن الحراك!
وها هي أم لثلاثة أطفال ترقد بين الحياة والموت بعد أن هشمتها سيارة في الطريق لتفيق من غيبوبتها على ألم آخر و هو فقدان ابنتها في نفس الحادث!
وفتاة جميلة...جميلة حقًا...شاء القدر أن يشوه نصف وجهها لتتوارى بعد ذلك خلف ستائر سريرها خوفًا من نظرة امتعاض من الآخرين!
وأجساد ملطخة بالدماء تحملها أيادي مسرعة نحو الأمل في النجاة من موت محقق!!
كانت صدمة....أشبه بصفعة على وجهي..
صفعة تقول لي: "أرأيت الألم؟!"
انزويت في أحد أركان الغرفة...وأخذت أبكي!!
بكيت لبكائهم ولصراخهم ولحكاياتهم!!
الحمد...
الحمد بالنسبة لي لم يكن أكثر من تلك العبارة التلقائية التي أقولها دومًا حينما يسألني أحدهم عن أحوالي!!
ولكن تلك الغرفة بحكاياتها جعلتني أوقن عمق هذه الكلمة
فما كنت "أتدلل" به لم يكن يساوي الواحد على المائة ألف مما كانوا "يصرخون" من أجله!!
مشهد لن يتكرر
عندما نشعر بالخوف ...
عندما تسكننا الوحشة..
وعندما ينكسر الكبر الذي بداخلنا...
ندرك وقتها أننا صغار!!
صغار أمام أنفسنا ...وأمام الألم
فلا نقوى على فعل شيء سوى اللجوء إلى من هو اكبر منا... ومن الألم....إلى الخالق عز وجل!
أمسكت بمصحفي وجلست على سريري البارد اقرأ بعض آيات القرآن الكريم...
كنت اقرأ بصوت خافت محاولة الخشوع وتدبر عمق الكلمات..
في تلك اللحظة كان هناك صوت آخر يشاركني الخشوع
صوت أراد أن يعلن هو الآخر عن رجائه
كان صوت تراتيل مسيحية تصدر من "كاسيت" جوزفين التي ترقد أختها بين الحياة والموت على السرير الذي بجواري!
كلانا ترجى الله...
كلانا كان الألم عدوه ..والشفاء مطلبه!
كنت اقرأ القرآن وصوت الإنجيل في أذني!!
صدق المشهد أخافني ...
ربما لأنه كان حقيقيًا جدًا في عصر كثرت فيه الفتن ...
وفي عصر الفتن.. قطرة الندى تخيف زهرة الصبار التي اعتادت العطش!!
رأتني جوزفين اقرأ القرآن فطلبت مني الدعاء لأختها!!
مشهد لن يتكرر...إن أردنا ذلك!!
تلك كانت الأيام التي قضيتها وسط الألم...لن أقول أنها الأسوأ في حياتي وبالطبع لم ولن تكون الأحسن، لكن سأقول أنها الأهم ..ربما الأهم على الإطلاق!!
فمن المهم أن تتألم قليلا لتعرف معنى السكينة.....ولتعرف من يهتم لأمرك
علمني ألمي ...كيف أرى آلام الآخرين ...وكيف أتخلى عن أنانيتي عند شعوري بالألم ..
فإذا عاود الزمان كرته، لن أرغم أبي على الذهاب إلى الصيدلية وسط ليل شتاء قارس ليحضر لي مسكن!
ولن اطلب من أمي أن تتحدث همسًا في الهاتف مع شقيقتها ..وإذا صادف وأحرز الفريق المفضل لأخي هدفًا ....سأهتف معه!!