الاثنين، 28 يونيو 2010

فيلم "عسل اسود"عندما نكتشف أن بلدنا رغم كل شيء.. "فيها حاجة حلوة"!

الكوميديا السوداء ...هي أن نسخر من مآسينا ...
هي أن نضحك وبداخلنا جرح عميق.
جرح يصل بنا إلى حد السخرية منه.. لأننا ببساطة لا نملك غير السخرية.

فيمتزج سواد الجُرح بحلاوة الضحك ...ليصل بنا إلى ..

العسل الأسود"

شاهدت الفيلم وبداخلي ذلك الجرح ..
جرح أراه في كل مكان ..بل وعلى نشرات الأخبار أيضًا.

فالمصري مهان داخل بلده وخارجها ...وهذه حقيقة لا يمكن تجميلها بكلمة مثل: "حادثة فردية"

ولن أخوض في تفاصيل "الحوادث الفردية" التي تحدث في الخارج كجلد الطبيبين المصريين في السعودية قبل أن تُعلن براءتهما ...وسحل المتهم المصري في لبنان على يد "مدنيين" دون محاكمة... وضرب صيدلي مصري في الكويت ضربًا مبرحًا على يد كويتي دون سابق معرفة ودون حتى تحقيق...وقتل الشاب المصري ذو السبعة عشر عامًا في ايطاليا على يد مواطن ايطالي "سكران" والذي بالمناسبة لم يقبض عليه إلى الآن!!


جلد وسحل وضرب وقتل!

كلمات تصرخ بالسواد كانت من نصيب المصري في الخارج ...

دعونا منها الآن ...
فالعسل بدأ يفقد حلاوته في حلقي.

يبدأ الفيلم بمشهد كوميدي خفيف في طائرة لشاب مصري اسمًا وصفةً (أحمد حلمي) وهو مصور فوتوغرافي عائد إلى مصر بعد اغتراب في أميركا دام 20 عامًا رسم خلالها صورة جميلة لبلاده... مصر...التي تركها منذ عشرين عام!

صورة جميلة لمصر..
بل صورة قديمة لبلادنا

تأتي مضيقة الطيران لتوزع جوازات السفر المصرية والأمريكية على الركاب وكأنها تقول لهم: "عليكم الاختيار"

فيرفض "مصري" أن يأخذ جواز سفره الأمريكي عند وصوله أرض الوطن وأصر على استبداله بجواز سفره المصري...

وهنا تبدأ المفارقة....

في صالة الوصول ...حيث الابتسامة المشرقة على وجوه الجميع ...يصل "مصري" إلى "شباك الجوازات" وما أن يسأله الضابط عن جنسيته ليرد" مصري" بأنه مصري حتى تنطفئ الابتسامة التي كانت على وجه الضابط ويطلب منه الانتظار بجانب الطريق ربما لساعات ليعطيه النهاية في جواز سفره المصري ويقول له "نورت مصر"
قالها الضابط وكأنها نذير خطر.

وبالفعل، فبدءًا من ضابط الجوازات في المطار إلى موظف الفندق مرورًا بـ "سايس" الخيل إلى ضابط الشرطة... كلهم أظهروا له السوء لمجرد أنه مصري وليس "خواجة"!!

يناقش الفيلم بأسلوب ساخر كيف يتعامل أبناء الوطن الواحد مع بعضهم البعض....وكيف أن للمصري دائمًا المنزلة الأقل في بلده.


ويأتي مشهد من أروع مشاهد الفيلم ...وأكثرها واقعية ...وهو محاولة "مصري" السير في شوارع القاهرة المزدحمة بتلك السيارة التي استأجرها من الفندق....محاولا التعامل مع الفوضى المرورية الهائلة والصادمة لـ "مصري" في ذات الوقت خصوصًا أنه أتى من بلاد لا تعرف للفوضى معنى...وروعة المشهد تكمن في الخلفية الموسيقية لهذا المشهد ...حيث كانت أغنية "حلوة يا بلدي"!

والحق إني ضحكت كثيرًا في المشهد فبجانب حرفية الإخراج التي أظهرت مشهدًا حقيقيًا لإحدى شوارع مصر المزدحمة...أقصد الفوضاوية، كان اختيار أغنية من أشهر الأغنيات التي غنت بها داليدا ذات اللسان الأعجمي حبًا لمصر ..هو الأروع!!

وبعد سلسلة من المواقف، يصاب مصري بإحباط شديد ...فلم يأتي عليه جواز سفره المصري إلا بالإهانة فيضطر في مشهد كوميدي صارخ أن يلقي بجواز سفره في النيل!

ولأن الحق غالبًا ما يكون ضعيف ...فكان الدعامة القوية التي يتكئ عليها ذلك الحق ....جواز سفر أزرق!

استبدل "مصري" جواز سفره المصري ...بجواز سفره الأمريكي ..
استخدمه "مصري" في عدة مواقف في الفيلم ...فأثبت جواز السفر الأزرق – للأسف – جدارته!

يتجلى هذا تحديدًا في مشهد من أكثر مشاهد الفيلم واقعية نظرًا لتكراره بشكل اعتيادي في الشارع المصري ..وهو مشهد إيقاف السائق "لطفي لبيب" من قبل ضابط المرور ..وسحب رخصته ..رغم أن المخطئ لم يكن هو ...بل كان رجل غامض بسيارة فارهة!

هنا اظهر "مصري" جواز سفره الأمريكي وهو يشهد بما رآه ...فأرتبك الضابط وحول الأمر برمته إلى من هو أعلى منه "للإفتاء"!

ولنقف هنا قليلا...

تخيلوا معي لدقيقة، إذا كان "مصري" لا يحمل جواز سفر أمريكي ...وأراد أن يقول كلمة حق..
فربما عنفه الضابط واقتاده عنوة إلى قسم الشرطة طبقًا لقانون الطوارئ وقام بتعذيبه حتى الموت لتكون النهاية هي ..تقرير من طبيب شرعي ليس بشرعي أبدًا يفيد بوفاة "مصري" أثر تعاطيه جرعة زائدة من المخدرات!!

الفيلم حقيقي جدًا ..أراد بشكل ساخر أن يفتح جُرح قديم ..لكنه لم يلتئم بعد ...مثله كمثل الطبيب الذي يخرج رصاصة من جسد جريح على وشك الموت...
في كلتا الحالتين ..
الألم أمر وارد!!


لم يرى "مصري" في مصر تلك الصورة التي رسمها في مخيلته ...ولكنه رأى أشياء أخرى جميلة ..
أشياء ربما لم ولن يجدها في مكان آخر غير مصر ....
هي أشياء لا يعرف بالضبط كيف يسميها ...
أشياء تميز بها المصريين دون غيرهم ...ربما لأنهم هم في الأصل متميزون عن غيرهم..

أشياء نسميها .."الحميمية" ..حميمية اللقاء ...التي وجدها "مصري" عند جيرانه بمجرد أن تذكروا أنه مصري "ابن حتتهم"!
حميمية من الصعب أن يجدها في بلاد باردة الطقس والمشاعر!


أشياء نسميها ..."البساطة"...البساطة في التعامل حتى مع المشكلات فالمصري دائمًا عنده الحلول السريعة لأي مشكلة فإذا تعطلت درجاته البخارية سيكتفي بالدق عليها بـ "ظلطة" لتدور ...وإن حدث وأن توقفت الكاميرا فجأة عن التقاط صورة ...سيلقي بكراسة التعليمات جانبًا...وسيكتفي بالنفخ فيها لتعمل من جديد!

أشياء نسميها "الدفء" ...دفء العائلة ..الذي نشعر به في جلسات الثرثرة حول صيجان الكعك ليلة العيد.

أشياء نسميها ...."خفة الدم" ....خفة الدم التي استطاعت أن تحول أكبر مآسينا إلى نكتة "حلوة"!


فقط، يعيب على الفيلم من وجهة نظري نقطتان ...الأولى هي النهاية غير المنطقية نوعًا ما وتتمثل في عودة "مصري" إلى مصر في اللحظات الأخيرة كالأفلام الهندية ...فشاب مثل "مصري" عاش وتربى في بلد مثل أمريكا من الصعب من الناحية الدرامية أن نقبل منطقيًا بهذه النهاية.
ولكن من الممكن أن نعطي بعض العذر الدرامي فـ"مصري" يعمل مصورًا ومهنة كهذه لا تتطلب كثيرًا إمكانيات دولية معينة.

النقطة الثانية، وأعتقد أنها الأهم ...هي عدم التطرق إلى أي من السلبيات الموجودة فعليًا في أمريكا...فلا اعتقد مثلا أن المصري أو العربي أو المسلم عمومًا يعيش معززًا مكرمًا في أمريكا خصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر دون أي ضغوط.

كنت أتمنى أن يتطرق الفيلم إلى مثل هذه القضية المهمة طالما كان النسق الدرامي يتحدث عن الحقوق. واعتقد أن مشهد المظاهرة كان تربة خصبة لطرح هذا الموضوع ...ولكن المشهد بدأ وانتهى بطريقة هزلية عابرة ...دون حتى استعراض لوجهة نظر "مصري" للقضية ...حين رأى صورًا لبوش ومعتقلي أبو غريب ...لو بنظرة عين!!

الفيلم ليس بالمسيء أبدًا مثلما كتبت بعض الأقلام ...
فقد كنت أشاهد الفيلم في السينما وكأن شريطًا سينمائيًا آخر يعاد عرضه أمام عيني...شريط أحداث مشابهة تعرضت لها بالفعل ...وكأن الفيلم يروي ما رأيت!

استعجبت كثيرًا من حملة الهجوم التي استهدفت الفيلم ....تلك التي اتهمت الفيلم بالإساءة إلى "سمعة مصر"!


لماذا هذه النبرة الآن؟!

اذكر أن شاهدت فيلمًا من أجمل ما أنتجته السينما المصرية في أواخر الثمانينات ...وهو فيلم "الدنيا على جناح يمامة" ...تضمن الفيلم مشهدان من أجمل مشاهد الفيلم وهو مشهد المقارنة بين البنوك المصرية والبنوك الأجنبية من حيث النظام والإدارة بتعليق صوتي للفنان محمود عبد العزيز والمشهد الثاني مشهد القبض على "إيمان" "ميرفت أمين" وسائق التاكسي رضا "محمود عبد العزيز" لمجرد أن الضابط اشتبه بهم!

لم نسمع وقتها أن الفيلم يسيء إلى سمعة مصر ...بل أن الفيلم لازال يُعرض حتى الآن في التليفزيون المصري دون حذف المشهدين!!

أتى فيلم "عسل اسود" بما هو موجود بالفعل في المجتمع المصري ....
لم يختلق ولم يزايد.....

فجاءت المشاهد صادمة وحقيقية جدًا وقد ساعد على ذلك الأداء الحرفي والمتميز لأبطال الفيلم ..
بدءًا بأحمد حلمي الذي أقنعني بشكل كبير بالشخصية شكلا وموضوعًا.
ايمي سمير غانم: والتي كانت مفاجئة الفيلم بالنسبة لي بأدائها العفوي والمميز جدًا فخرجت من الفيلم أتذكر جيدًا جملا حوارية كاملة لها رغم قلة عدد المشاهد التي أدتها.
طارق الأمير: أو عبد المنصف والذي أدى دوره بحرفية شديدة وبتلقائية وطبيعية أبعد ما يكون عن التمثيل أو الإدعاء!

ولأني اعتبر المخرج من أبطال الفيلم ...فقد قدم لنا "خالد مرعي" فيلمًا قويًا من حيث الصورة والإخراج ..

كذلك الصوت الجميل "ريهام عبد الحكيم" والتي غنت ضمن أحداث الفيلم أغنيتن أراها أنها من أصدق الأغنيات من حيث الكلمة واللحن وهما "بالورقة والقلم" و "فيها حاجة حلوة" تلك الأغنية التي أتت مع تترات النهاية للفيلم مع حوار جميل وعفوي جدًا لأحمد حلمي مع "مراكبي" !

ويبقى الجندي المجهول ...الذي لازلت أبحث عن أية معلومات عنه إلى الآن ...فم يحالفني الحظ أن اقرأ اسمه بين تترات الفيلم ...وهو المصور أو الـ Photographer الذي أتحفنا بصورٍ أكثر من رائعة جعل من إحساسي الأول بعد خروجي من الفيلم هو أني ...."عايزة اشتري كاميرا"!!

هناك تعليقان (2):

  1. المدونة حلوة أوي وصادقة ومليئة بالمشاعر كالعادة يا لبنى

    واسمحي لي أن أؤيدك وبشدة في رأيك الإيجابي في الفيلم، فالفيلم رائع للغاية

    أما العيبان فلا أراهما بصراحة من عيوب الفيلم

    الأول نهاية قد تبدو غير منطقية للبعض لكنها تبدو منطقية لآخرين

    أسرتي مثلاً تعيش في الخارج منذ ما يقرب من ٣٦ عامًا

    إخوتي جميعًا يتمنون العودة للخارج فيما عداي أحب مصر إلى درجة تؤلم روحي ولا أتمنى أن أعيش خارجها أبدًا، لم؟! سؤال يطرحه علي الجميع من أسرتي ولا إجابة له عندي سوى أنني أحبها، بكل ما فيها من مساوئ وبكل ما فيها من محاسن

    النقطة الثانية هي أن محور الفيلم هو انتقاد وضع البلاد وليس وضع العالم وبالتالي ركز على مصر بمحاسنها ومساوئها بجمال روح شعبها وأصالتهم الخفية وببعض التصرفات التي تتسم أحيانًا بالخسة دون أن تكون أصلاً فيهم

    أبلغ دليل كان لطفي لبيب الذي أثبت أنه فرد من بلاد "يا بلد معاندة نفسها يا كل حاجة وعكسها"

    بصراحة أنا أجد الفيلم رائعًا إلى أقصى حد

    ردحذف
  2. و هون كمان في حاجة حلوة

    لم أشاهد الفيلم حقاً لكنني أتوق إلى مشاهدته خشية أن أتمثله يوماً ..

    يا زينكِ الله بزينة لا تفنى

    ردحذف