الجمعة، 22 مارس 2013

الآخر..


هو ذلك الطرف البعيد عنك، القريب منك.
هو نقيضك وربما عدوك. وربما أنت، وأنت لا تدري. 




  كنت في الثامنة عشر من عمري حين رأيت طفل يُقتل بين أحضان أبيه على نشرة الأخبار.
كان مقتل الطفل محمد الدرة بتلك الصورة الوحشية مشهد لم ولن انساه يومًا. اذكر تلك الليلة جيدًا. فور عرض تلك اللقطة، أسرعت إلى غرفتي وانهرت في بكاءٍ لا يتوقف.
سألني أخي محاولا تهدئتي ولم أُجب. ولم يعرف لماذا كنت أبكي تلك الليلة إلى اليوم.


مع رؤية الدماء بشكل يومي والبيوت التي قصفتها صواريخ الطائرات، أصبحت أرائي بخصوص القضية الفلسطينية تميل إلى التطرف نوعًا ما. كان في رأيي أن الفلسطينيين من حقهم مقاومة المحتل بأي شكلٍ كان ومن أي مكانٍ كان. فبلادهم محتلة. وهم من يُقتلون كل يوم بدم بارد فلهم الحق كل الحق في مقاومة العدو الإسرائيلي.

كنت أرى طرف واحد في القضية هو من يجب أن يكون منتصرًا دائمًا دون النظر إلى أية عواقب.

إلى أن مررت بنقطة التحول الفكري حول هذا الموضوع. لم تكن نقطة التحول هذه مزيدًا من القراءة مثلا حول القضية الفلسطينية أو إنصات لآراء الخبراء السياسيين الأكثر خبرة ودراية بتلك الأمور في برامج التوك شو. لا. بل كانت مشاهدتي لفيلم سينمائي. فيلم "باب الشمس" للمخرج "يسري نصر الله" بجزئيه "الرحيل" و"العودة" كان نقطة التحول هذه.

رأيت الآخر فيه. رأيت كيف مزقت الحرب الأهلية لبنان وكيف كان "العقاب الجماعي" هو حل السحري الجبان لإسرئيل  لتضغط به على المقاومة الفلسطينية هناك. رأيت الآخر يُقتل في بلده دون جريرة اقترفها. ورأيت بيوتًا تهدم على رؤوس أصاحبها الآمنين. رأيت اجتياحًا إسرائيليًا آخر واحتلال جديد ودماء أخرى تُراق بلا ذنب.

أصبحت آرائي تميل إلى الاعتدال حول هذا الموضوع وهي باختصار: "إن كنت تريد مقاومة عدوك، أن تحرر أرضك، فكن مقاومًا ومحررًا وانت تقف عليها وليس على أراضي الغير".

أصبحت أكثر نضجًا في حكمي على الأمور حين نجحت في وضع الآخر نصب عيني أولا.

إلى أن جاء "امتحان" لهذا النضج على أرض الواقع.

زميل جديد لي في العمل عاش فترة من عمره في إسرائيل بحكم منصب والده والذي كان دبلوماسيًا في سفارتنا بتل أبيب ويحمل بعض الأفكار اعتبرها صهيونية ومن المفترض أن نعمل سويًا.. يا سلام!

اعترف أنى أخذت منه موقف منذ البداية. لم أكن حتى القي عليه السلام. بل وصل بي الأمر إني اعتبرت قبولي لـ"عزومته" على كوب من النيسكافيه ببوفيه الشركة تطبيعًا مع إسرائيل!

ويومها كان حديثي عن كوب النيسكافيه وهل قبولي لعزومته تلك خيانة للقضية الفلسطينية أم لا، أكثر من حديثي عن العمل ومشكلاته.

كان حديثي عن تلك الواقعة مثير للسخرية حقًا.
ورغم أن قوانين الشركة تمنع التحدث في السياسة أو الدين، إلا أن كثيرًا ما كنا نتشاجر بخصوص القضية الفلسطينية. كانت آراءه التي اعتبرها استفزازية وخصوصًا أنها تخرج من عربي مسلم، تتلخص في أن إسرائيل تعتبر من أكثر الدول ديمقراطية واحترامًا للحريات الشخصية وهذا ما كنت اعتبره "هراءً" ومحض كذب لأن لا معنى لديمقراطية لا تطبق إلا على فئة معينة من الشعب  واحترام الحريات وانت تحتل أراضي الغير شيء يدعو للسخرية. كنا نتجادل طويلا إلى أن نصل إلى نقطة النهاية بإثارة نقطة الخلاف الجوهرية حين اسأل عن من تُراق دمائهم في فلسطين فيجيب "الفلسطينيين هما اللي بيضربوا صورايخ" لأغلق بعدها باب المناقشة يعقبه توتر شديد في التعامل فيما بيننا.

لم يكن احمد متعصبًا لرأيه. أقصد لم يكن ذلك النوع الذي يعلو صوته أو يلوح بيده. بالعكس كان هادئًا ودائم الابتسام رغم إصراره على رأيه. والأكثر غرابة أنه لم يُقحم اختلافنا أو بمعنى اصح "خلافنا" في العمل ولو لمرة!. بل كان متعاون لأبعد درجة. "جدع" لأبعد درجة. وقف بجانبي في أكثر من مشكلة في العمل. تطوع بتقديم محاضرات في "التوعية السياسية" أتناء فترة الانتخابات الرئاسية ومجلس الشعب لزملائنا في الشركة بعد فترة الدوام وهذا بحكم تخرجه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. كنت دائمًا أقول له مازحةً: "خسارتك في إسرائيل"! فيضحك ولا يرد.
  
 
لم افهم تلك الشخصية يومًا. كيف يفكر بهذه الطريقة رغم شخصيته الودودة. قال شيطاني: "الإسرائيليين كلهم كده بيتمسكنوا" ولكن تمهلت للحظة وقلت: "بس أحمد مش إسرائيلي"!  


وقتها كنت غارقة في قراءة رواية "غرفة العناية المركزة" للأديب الدكتور عز الدين شكري وبهرتني كيفيه تقديمه للآخر. بين صفحات الرواية كان هناك حوارًا رائعًا على لسان شخصيتين من شخصيات الرواية.
والشخصيتين من المحاربين القدامى بحرب أكتوبر. الأول أصبح رجل يعمل في جهاز أمني حساس والثاني أختار أن يعمل بالسياحة وسيتقبل أفواجًا من إسرائيل على ذات الأرض التي حاربوا عليها ومن أجلها. بالطبع كنت ضد رجل السياحة ولكن كان منطقيًا في تحليله للوضع. هو أراد السلام ومن حقه أن يريد ما يشاء. فقد قالها صريحة. لقد حررت أرضي وانتهى الأمر. ولن أقضي طول حياتي أحارب أناس لا أعرفهم.

وقتها تذكرت زميلي أحمد ولأول مرة قررت أن أفكر بعقله هو وليس بمنطقي أنا. وضعت نفسي مكانه في كل التفاصيل. فرأيته شخصًا آخر غير تلك الصورة التي رسمتها مخيلتي العدائية نحوه.
 
هو شاب صغير السن. قضى سنوات من عمره بينهم. دراسته بالخارج فرضت عليه تلك العقلية الغربية التي تستبعد فكرة "القومية العربية" أو القوميات بشكل عام. فمن طبيعي أن لا يعاديهم طوال الوقت ولا يرى أي جانب آخر فيهم سوى أنهم "بني آدمين وخلاص". ومع الوقت بدأت أراه أكثر. أراه بوضوح أكثر. وفي كل مرة كنت أتلمس فيه هو الآخر نضج فكري جديد. وبدأ يحلل الأمور بشكل موضوعي أكثر من ذي قبل. وكأنه أخذ يخوض ذات اللعبة ويضع نفسه مكان الآخرين. مازلنا مختلفين. نعم. ولكن بدأ كل منا يرى بعين الآخر الجانب الخلافي من القضية. فوصلنا إلى نقطة التلاقي، وهي أن كل إنسان من حقه أن يعيش وأن لا تُراق دمائه غدرًا وأن لا تُكبل حريته قسرًا. وإن أردناها حربًا، فلتكن متكافئة الأطراف.
 
 



هناك 4 تعليقات:

  1. للأسف أصبحت لا أؤمن بفكرة الحيادية خاصة بالنسبة لمن يعيش أو يتفاعل مع التجربة. فكل منا يشعر بالحدث بطريقته على حسب تجاربه هو الشخصية وحياته وأخلاقة ومبادئه وقيمه. في أغلب الأحيان يصدق الإنسان إنه محايد وعلى حق وإن الآخر على غير حق. والآخر يراه بنفس الطريقة. إن تضعي نفسك مكان الآخر عمل مرهق وصعب ومهما حاولنا قد نعذره ونقدر اختلافه لكنه من الصعب جدًا أن تشعري بما يشعر.

    بالرجوع إلى نقطة الحيادية لا أرى أن رأيك يمكن أن يكون حيادي ولا رأيه لأن كل منكم يحكم على الموضوع بتجرته الشخصية.

    الرأي الحيادي يكون لمن لم يعش التجربة ويسمع من الطرفين حتى يكون حكمه أقرب إلى الصواب، فقد يكون هو الآخر لديه تجارب مماثلة تؤثر على رأيه.

    ولذلك تواجدت المحاكم والقضاه

    واضح أني أبتديت أهيس وأدخل في حلقة مغلقة :)

    بالنسبة لموضوع إن كل من يحارب من أجل وطنه يجب أن يكون على أرضها. أرى أن من يذهب إلى الخاريج حاملاً هموم بلده باحثا عن حل في تجارب دول أخرى او من يحشد مساعادات أو دعم لقضية بلده من بلاد أخرى هو أيضًا محارب.

    حلوة قوي با لبني ويا ريت ماتبعديش أوي كدة تاني

    ردحذف
    الردود
    1. اشكرك يا شيماء على تعليقك وانت مش بتهييسي .. في فرق بين إن اتفهم اختلافك عني واتعامل معاك على هذا الاساس وبين إن ارفض التعامل مع اختلافنا لدرجة المحاكم والقضايا .. وتفهم الاختلاف مش معناه الموافقة على رأي الغير.. بس حابة ارد على أن من يذهب إلى الخاريج حاملاً هموم بلده باحثا عن حل في تجارب دول أخرى او من يحشد مساعادات أو دعم لقضية بلده من بلاد أخرى هو أيضًا محارب .. طبعًا كلامك صحيح وانا شايفة إن الحلول اللي بالطريقة دي هي الأفضل .. لكن كنت أقصد في المدونة المقاومة اللي لازم تبقى على ارضك مش على ارض غيرك .. هي المقاومة المسلحة .. دي اللي لازم ما ندخلش فيها اطراف تانية ممكن بدوقوا الأمرين بسببها .. وكانت اقربها حرب لبنان الأخيرة سنة 2006 .. والموضوع اصلا كان بين حزب الله واسرائيل .. النتيجة إن اسرائيل ضرب الجنوب كله وساوته بالأرض!! :)

      حذف
    2. بالنسبة للنقطة الأولى أنا لم أقصد إن الخلاف يصل لمرحلة المحاكم. أنا أقصد أوضح فكرة الحيادية عند اختيار محكمة أو قاضي ليس لديه أية صلة بالموضوع حتى تكون نظرته حيادية. أي أن الحيادية لا يصل إليه إلا من ليس له أية علاقة بموضوغ الاختلاف. الغرض توضيحي وليس أكثر. بالنسبة للنقطة الثانية أنا فهمت قصدك :)

      حذف
  2. كالعادة المدونة عجبتني

    الفكرة هنا مش في الحيادية الفكرة في الفهم

    الفهم هو الأساس لأنه هيخلي الإنسان يعرف هو اللي قدامه ده عدو ولا صديق لكن بيفكر بطريقة مختلفة عن طريقتي

    طريقة أنا شايفاها غلط زي ما هو شايف طريقتي غلط

    يمكن في قضية إسرائيل وفلسطين هيبدو الأمر أكثر وضوحًا ويمكن مشاعرك تجاه أحمد كانت لمجرد إنك أول مرة تقابلي حد يختلف معاك في القضية دي

    الأهم بقى في القضايا الأكثر غموضًا

    يعني القضايا اللي بنفضل مش قادرين نتأكد فين الحقيقة وفين الكذب ويمكن الحقيقة يكون ليها عدة أوجه مش وجهين بس زي اللي إحنا فيه دلوقتي

    مبسوطة بتحليلك وحاولي تطبقي ده على جوه مصر على الإخوان والليبرالين على السلفيين واليسارين على كل فئات المجتمع وكل أصنافه وفئاته وشرايحه

    ردحذف