الأحد، 24 مارس 2013

أتراك ولكن ..



طالما لفتت نظري تلك "الطلة" النمطية لشخصية "التركي" في السينما والمسرح المصري. فهو الظالم زير النساء في "ألمظ وعبده الحامولي"، وهي الزوجة المتغطرسة في "إشاعة حب"، وهو الديكتاتور في مسرحية "سيدتي الجميلة" في نسختها المصرية، الذي يجبر الأمراء والبكاوات على حضور زوجاتهم معهم في حفلاته ليرى من منهن الأجمل.

وكنت أتساءل. هل ثمة أمر ما في الشخصية التركية جعلت منهم نماذج للظلم والفساد الأخلاقي على شاشاتنا وخشبات مسارحنا؟ هل كانوا حقًا كذلك؟

منذ عدة أيام وأنا اقرأ المسرحية الغنائية "شهرزاد" أشعار بيرم التونسي بالاشتراك مع سيد درويش. وقرائني لتلك المسرحية ما هي إلا محطة في رحلة قراءة ممتعة لتراث المسرح المصري والتي بدأتها بقراءة النص الأصلي لمسرحية "علي بابا" والتي عُرضت لأول مرة على مسرح الأزبكية عام 1926 ومن أشعار بديع خيري.

في مقدمة مسرحية "شهرزاد" يُقدم الأستاذ محمد السيد عيد تحقيقًا رائعًا عن كواليس كتابة المسرحية والظروف السياسية والاجتماعية التي عاصرها بيرم التونسي أثناء كتابته لها، والتي كانت في المنفى. وليس هذا فحسب، بل قدم أيضًا الظروف السياسية التي أنجبت أهم المسرحيات إبان ثورة 1919، ومنها مسرحية "العشرة الطيبة" والتي تطرقت للشخصية الحاكم التركي بالنقد اللاذع. فيقول الأستاذ محمد السيد عيد في مقدمته لمسرحية "شهرزاد":

وتشاء الأقدار أن يبدأ الهجوم على الأتراك بالتحديد رجل من أصول غير مصرية، هو محمود تيمور، إذ قدم في مارس 1920 أوبريت "العشرة الطيبة" وصور فيه الأتراك في صورة قاسية، يمارسون الحكم المطلق، ويظلمون الشعب، ويقتلون النساء دون رحمة. ولا يمكن لأحد أن ينسى صورة الحاكم التركي الإمعة، الغائب عن الدنيا بفعل المخدرات، التي رسمها محمد تيمور في أوبريته.

وقد هيج هذا الأوبريت الأتراك وأحفاد المماليك، بل وغير المماليك أيضًا، ولعله من المناسب أن ننقل هنا ما قاله إبراهيم رمزي عنه في صحيفة الأخبار بتاريخ 15 مارس 1920، أب بعد العرض الأول بأيام. قال:


"لا يسعني .. أن أتغاضى عن سيئة اشتملت عليها الرواية من أولها إلى آخرها، وهي تمثيل الولاة الذين حكموا مصر قبل عهد محمد علي في الصورة المزرية التي قدمها لنا تيمور بك مؤلف الرواية. فما عهدنا في والٍ من هؤلاء الولاة ولا أمير من الأمراء أن نساءه كن عواهر. ولا علمنا أنهم كانوا يركبون المصريين، ولم نر أنهم كان يستهينون بأعراض بيوتاتهم. فما عذر تيمور بك مؤلف هذا الرواية من الادعاء على التاريخ والناس إن صح أن يعزي لذلك العهد من المظالم ما يعزي، قلنا انظروا ماذا كان في أوروبا في ذلك العهد بعينه. هزل كان فيه عدل ورحمة؟ ولماذا قامت الثورة الفرنسية وغيرها؟ ولكن الذي يمتاز به الأتراك على سواهم أنهم أعف الناس رجالاً ونساءً وأشدهم وعيًا للآداب والأخلاق وأبرهم بالوالدين والآباء وأباهم للضَّيْم (1) وأشدهم دفاعًا عن الخِدر (2) والزمار (3)"

أسرتني تلك الكلمات. فربما كانوا ظُلَّامًا حقًا، ولكن تفوقنا عليهم ظلمًا حين نسبنا إليهم ما ليس فيهم وألصقنا بهم كل ما هو مشين.

زرت "بيت الكريتليه"، وهو بيت أثري قديم من الطراز العثماني،  وعجبت من تصميم الجناح الخاص بالحرملك الصعب الوصول والذي صمم خصيصًا لكي يبدو خفي عن الأنظار.   


واذكر أن شاهدت حلقة من مسلسل تركي كان يتناول هذه الفترة، وعجبت حين علمت من سير الأحداث أن بطلة القصة، والتي تعمل راقصة، كانت تتخفى وراء اسم يوناني حتى لا يطاردها العسكر العثمانيون لأن القانون لا يسمح للمسلمة أن تعمل بمهن تتنافي مع الأخلاق الإسلامية كالرقص!



قطعًا كانت الدولة العثمانية تعاني قبيل سقوطها من الضعف والفساد وظلم حكامها. ولكن إن أردنا أن ننتقد، فلنكن موضوعيين ولا نخوض في أعراض من ننتقدهم. فلعل هناك ما لا نعرفه. لأننا، وللأسف الشديد وأنا أول من وقع في ذلك الفخ، نأخذ التاريخ من كما رأيناه على الشاشة. والشاشة أحياننًا كثيرة ما تخدع.

درست اللغة العثمانية (التركية القديمة) في الجامعة بجانب دراساتي للفارسية. وكنت أستشيط غضبًا حين علمت أن كلمة "فلاحلر" أي فلاح بالعثمانية كانت تطلق على المصري. كنت أرى في ذلك محض عنصرية وتقليل من شأن المصري في اللغة خصوصًا أن تم استخدامها في الأعمال الدرامية المصرية على لسان من يقومون بشخصيات تركية على أنها سُبة. لكن مع دراسة أعمق للغة علمت أن سبب التسمية هذه، أن المصريين وقتها كانوا هم من يجيدون الزراعة. وكانت أعمالهم تنحصر في تلك الأمور، فأصبحت أعمال الفلاحة تُقرن بالمصريين دون غيرهم ولم تكن مسبَّة كما اعتقدت.

إذن، الحل في البحث، في العلم. في القراءة المستنيرة للتاريخ.  إننا نبالغ في نقدنا للماضي، فنقتطع ما نشاء ونزيد ما نشاء. ويزيد الأمر صعوبة حين نوثقه بلغة الصورة في الدراما، وتزيد الغصة عندما يكون الأمر يمس شرف أناس رحلوا ولن يدافعوا عن أنفسهم، وإن كان هناك من مدافع، غالبًا سيكون كتاب أو مقال يظهر بعد مئات السنين ولن يقرأه غير من يهتم كمقالي هذا.  


هوامش المرادفات:
(1) الضَّيْم :الإِذلال
(2) الخِدْرُ: سِترٌ يمَدُّ للمرأة في ناحية البيت.
(3) الزمار: يُرجح أن يكون البرقع التي كانت ترتديه المرأة في تلك الفترة.



هناك تعليقان (2):

  1. شكرًا يا لبنى أنك فكرتيني بأنه ليس كل ما نقرأه صحيح ويقع علينا عبء تنقال معلومات عن أشخاص من كتب أو مصادر أخرى مرئية أو مسموعة أو مقروءة دون التأكد من صحتها. أرى إن هذا أيضًا نوع من النميمة والغيبة حتى وإن ذكرنا المصدر.

    ردحذف
  2. متفقة معاك مليون في المية

    نعم ليس كل ما نقرأ ونسمع ونشاهد صحيحًا بل أزيدك أن ذلك ليس حكرًا على الأدب والروايات والخيال والدراما وغيرها

    بل حتى الأخبار والوسائل الإعلامية والبرامج السياسية والكتب التاريخية فالتاريخ يكتبه المنتصر كما يقولون

    نعم بالتأكيد كان هناك فساد في نهاية الدولة العثمانية وبالتأكيد فساد كبير وإلا ما كانت سقطت لكن الأعراض تختلف

    شكرًا يا لبنى

    وعشان كده سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم قال: "كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما يسمع" وأعتقد هنا أن المقصد كان لأن كثيرًا مما نسمع ليس هو الحقيقة أو هو وجه واحد منها

    فما بالك بالأدب والدراما التي ينالها كثير من الإضافات

    ردحذف