الاثنين، 20 مايو 2013

بالونات ملونة ♥


  وقفت بفستانها الوردي الطويل تحمل معها حقيبتها وكتابها، وإرهاق يوم أكثر طولا.
تعيد خصلة من شعرها الأسود الذي يتطاير بفعل رياح خريف مزعج إلى داخل حجابها الأبيض الناصع، وتنظر إلى البعيد.
المحطة مزدحمة، وعليها أن تكون في المقدمة لتستطيع الفوز بمقعد في العربة، فهذا أقل تقدير لها بعد يوم حافل بمشاكل العمل وتخلي زميلها عنها ليذهب إلى بيته مبكرًا لتتحمل هي المسؤولية وحدها، أن تجد مكانًا تجلس فيه.
تباغتها الرياح ثانيةً، يتطاير فستانها فيكشف عن ساقيها .. تسارع بالإمساك بالفستان فترمق من يسترق النظر!
تنظر إليه نظرة غضب ممزوجة ببعض الخجل. تقول لنفسها ما هؤلاء الرجال الذين لا يرون فينا غير الجسد؟!

************

يا الله! ما هذا الحر؟!
اللهم أجرنا من النار! نصحتني قريباتي أن أؤجل أمر ارتدائي للنقاب إلى الشتاء القادم حتى يتسنى لي التعود عليه قليلا فلا أشعر بمشاقه في هذا الحر  .. ولكن هذا أمر الله وليس قريباتي .. وطالما أني اقتنعت أنه أمر من الله وأنه الزي الشرعي للمسلمة فلا تأجيل. وكلما اشتد الحر عظم الأجر.
كم هو جميل ذلك الفستان الوردي الذي ترتديه تلك الفتاه!
كان عندي مثله العام الماضي قبل أن يهديني الله .. اللهم اهدها هي الأخرى وبنات المسلمين.
تأخرت العربة! علي أن أذهب بابني معاذ للطبيب قبل أن يرجع زوجي، فأنا لم استأذنه قبل خروجي. ولكن ما ذنبي، الولد تؤلمه معدته وتليفونه المحمول مغلق طوال الوقت.  لا، كان عليّ أن اسأل الشيخ أولا قبل أن أتصرف. يا الله .. اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك.


************

كان يتسكع عند المحطة. فلا يجد ما يسليه في المساء غير التسكع.
يلمحها بفستانها الوردي الذي يراه مثيرًا رغم طوله.
تبدو مجهدة ولكنها شهية. يمعن النظر فيها وهي تواري خصلات شعرها تحت حجابها الأبيض. ويمعن أكثر. فالنظر أول المتعة. يقترب قليلا فتأتي الرياح بما يشتهي هو. ساقيها تنكشفان أمامه.
سيقان بيضاء جميلة.
يمعن النظر وكأنه لم ير سيقان مكشوفة من قبل، فالنسبة له انكشاف ما تجتهد فتاة في ستره أكثر إثارة مما كُشف من الأساس! الإثارة هنا ليست إثارة الجسد .. الإثارة هنا إثارة انتهاك ستر أو كشف سر!
تلتقي عيناه بعينها! يبتسم ابتسامة المنتصر الذي عرف ما تحجبه عن الناس. تنظر إليه نظرة غضب ممزوجة ببعض الخجل وتواري نفسها عنه حتى لا يراها. علي أن اقترب أكثر ..

تأتي العربة من بعيد، فيتهافت عليها الركاب.
تركب الفتاه فيلحق بها سارق النظر .. وسارق الجسد.
تشير إليها أم معاذ أن تجلس بجوارها لتحول بينها وبين الرجل الجالس بنفس الكرسي.
ترفض الفتاه العرض لا لسبب غير أنها تكره تلك النظرة الدونية التي تنظرها المنتقبات لغير المنتقبات. لماذا هي من عليها أن تجلس بجانب الرجل؟! إن كانت تعتقد أن الجلوس بجانب الرجال بالمواصلات العامة انحلالا وحرامًا .. لماذا تقبله على غيرها؟ أو بمعنى أصح على من لا ترتدي النقاب مثلها؟ هل نحن من نحب ونسمح بذلك؟! هل نحن أقل دين منهن؟

تترك السيدة وتجلس أخيرًا بعد عناء الوقوف بآخر العربة فتفاجأ به يجلس بجوارها تمامًا. تتوتر قليلا وتحاول أن تبتعد قدر الإمكان، وهو يلاحقها بابتسامة السجان فأنت بجواري تمامًا.. ويقترب أكثر.

************

العربة ما زالت واقفة!

- "مستني ايه يا اسطى؟"
- "لسة واحد قدام!"

يا الله علي أن انتظر ثانية ليكتمل العدد؟! علي الذهاب والإياب قبل أن يرجع زوجي!
ماذا أفعل؟! سأجلس أبني الصغير على المقعد الفارغ الذي بجواري وأدفع له أجرة إضافية حتى تتحرك العربة وحتى أضمن ألا يأتي رجلا يجلس فيلتصق بي. سامحها الله تلك الفتاة!

وقبل أن تمد يدها بحقيبتها لتدفع الأجرة الإضافية تأتي سيدة لاهثة لتلحق بالعربة!
ترتاح قليلا فأخيرًا سيدة ستجلس بجوارها وتجنبها حرج الجلوس بجانب رجل، ولكن تلحظ الصليب الذي يتدلى من رقبتها. فتتحفز قليلا.
تشير إليها على مضض أن تجلس في المنتصف كما فعلت مع الفتاه فتقبل العرض وتجلس بينهما.

************



لماذا فعلتُ ذلك؟ هل خِفت؟
المسيحي دائمًا خائف في هذا البلد .. وإن اتزن ميزان العدل قليلا .. فحقيقة أن هؤلاء من يحكمون اليوم حقيقة لا جدال فيها. وإن نسيت أو تناسيت لتعيش دون قلق .. ستُذكرك تصريحاتهم العدائية مرارًا لتبقى داخل الجُحر، على الأبواق الإعلامية التي تحولت مساجد، وفي المساجد التي تحولت أبواق إعلامية..  وفي الفضائيات التي لا تعرف هل هي  تلك أو ذاك .. وحتى على الحيطان!
الخوف أصبح السمة واستثناء هو الأمان .

قال لي قس الكنيسة ذات مرة، عليكِ أن تكوني حذرة معهم أكثر يا ماريان. إنهم يتربصون بنا.

 
ولكن هي لم تفعل شيء يستعدي الخوف!
هي فقط أشارت لي أن أجلس هنا!
وهل هذا قليل؟! لقد رأيت نظرة الاستياء في عينها.
أي استياء في عينها؟! المرأة لا يظهر منها شيء. كفى تحفزًا واتركي ذلك الأمر التافه.

مسكين الطفل الذي بحجرها يبدو شاحبًا جدا.  أتراني أعطيه قطعة الحلوى التي معي؟!
أخاف الصد. لا .. لا تفكري كثيرًا .. إنه طفل!

تفتح حقيبتها لتخرج قطعة الحلوى الملفوفة بورق الساتان المبهجة ألوانه لتعطيها مباشرة للطفل بابتسامة مترددة.

-         "خد يا حبيبي .. كُل دي"

-         "لا لا شكرًا"  

بالطبع لم يكن الطفل هو الرافض. قوبلت حلوى ماريان بالصد "على الهوية" فترجع يدها الممدودة بالسلام "المحلى" ومكفهرة الوجه من شدة الخجل.

************

لا أكرههم ولا أحبهم .. أمرنا ديننا أن نحسن معاملتهم. ولكن لا للألفة!
الألفة تفتح القلب .. وتعمي العين.
الألفة هي بداية التنازل .. والتفريط.
وهم يسعون إلى أن نفرط.
************


يقترب أكثر، فتبتعد.
يا الله! لولا سخافة تلك السيدة لما جلست بجواره!
تتوتر بشدة وتحاول أن تتجنب الالتصاق به
"لو سمحت ممكن توسع شوية؟!"
يبتعد قليلا ..لدقائق ..  ثم يقترب.

************

كانت السيارة بين الحين والآخر تقف لتستقبل راكبًا أو تودع راكبًا، دون حتى أن ينتبه أحدهم.
ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا.
كان ملفتًا للنظر بشدة. ابتسامته غير المبررة. مظهره الطفولي . كان مسنًا يحمل معه بالونات!
بين ابتسامات السخرية والضحكات المكبوتة استقبلت العربة ذلك الراكب غير العادي ليجلس بجوار سارق الجسد من الجهة الأخرى!

دقائق وعادت العربة لتوترها السابق.
فالخائف عاد لخوفه. والمتحفز عاد لتربصه. وسارق الجسد عاد ليسرق.
كان الجميع يصرخ في صمت.

************


كانت الرياح شديدة، وبجوار النافذة مباشرة، جلس الرجل مع بالوناته الملونة!
 
ينفك الخيط الذي يربط البالونات ببعضها!
وفجأة تطايرت البالونات في سماء العربة!
بدت الصورة .. كصورة رمادية قاتمة لا ألوان فيها غير ألوان البالونات المستديرة.
روحٌ دبت في جسدٍ ميت. متحرجًا، ناشد الرجل المسن الركاب بتجميع وربط البالونات إن أمكن.

كان المشهد باعثًا للضحك. والضحك بداية الألفة.

الكل انشغل بربط البالونات الملونة التي أتت الرياح بها كنسمة رحمة.
الكل انشغل ونسى.
تلك الابتسامة التي أتت مباغتة باتت لونًا جديدًا بالصورة.

كانت يد ماريان بيد أم معاذ يربطان معًا خيوط البالونات.
وتحول التوتر بينهما إلى حديث ببضع كلمات، ثم إلى حوارٍ عن أفضل طرق للزينة بالبالونات ثم تتطور الأمر إلى ثرثرة نساء.
انفتح القلب المحكم الإغلاق!

************

رآها تمسك بالبالونات وتحاول ربطها وحدها دون جدوى.
رآها بفستانها الوردي تمسك البالونات كطفلة تلهو بالعيد.
لم يلحظ وجهها البريء قبل أن يتعقبها كالذئب .. رآها في لحظة .. طفلة!

بادر لكي يساعدها في ربط البالونات والخجل ينطق من عينيه.
عيناه التي لم تعرف الخجل يومًا.

************

سُئل الرجل عن البالونات التي يحملها، فقال لهم إنها لأحفاده الذاهب إليهم الآن.
وعندما سُئل مرة أخرى لماذا لم يذهب إليهم بها وهي فارغة من الهواء لكي يوفر على نفسه عناء تطايرها في رياح الخريف هذه قال:
لكي لا تفوتني نظرتهم الأولى!
فرحتهم الأولى!
لمعان أعينهم وهم يرون منظر البالونات وهي معلقة بين يدي ومتوجه بها إليهم!
البالونات بهجة الأطفال. ورمز براءتهم.
الأطفال عيونهم لا تعرف شهوة.
لا تعرف حقدًا أو مكرًا أو مؤامرة.
لا تعرف غير البالونات الملونة.





هناك 3 تعليقات:

  1. روووووووووووووووووووووووووووعة

    ردحذف
  2. تعرفي لما قريتها حسيت بإيه يا لبنى

    حسيت إنك كشفت الغطا عن مليون مشكلة في نفس الوقت بسلاسة ولطف وجمال ورقة وإنسانية

    مش بس مشكلة قولي أمراض مجتمعية متفشية

    مش عارفة ليه حسيت إنك البنت أم فستان كله ورد مش كده؟

    الجمال إنه كعادتك مخك بيفكر بالصور فالقصة عبارة عن مشهد سينمائي

    ياااااه على الناس لما تيجي فرصة يرجعوا فيها لفطرتهم النقية لمشاعر إنسانية طفولية جميلة لما تشيلي الغبار والطين اللي غطى قلبنا الأبيض وفطرتنا السليمة فبقينا مشوهين

    باختصار القصة مش بس عجبتني ومش بس شفتها روعة لكن لمست قلبي وعقلي وفكري

    برافو عليك حقيقي

    ردحذف
  3. حلوة قوي يا لبنى فعلاً فيلم سنيمائي أحلى حاجة لما الناس تتوحد على هدف وتنسى الخلاف. شكرًا يا لبنى على مشاركتنا القصة الجميلة دي

    ردحذف